فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (19):

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}
قوله جلّ ذكره: {إنَّ الدّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ}.
الدِّينُ الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يُلَقِّيه- هو الإِسلام.
والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ}.
جاءهم العلم الذي عليهم حجة، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة، فأصروا على الجحود، لأنهم حُجِبُوا عن محل الشهود.

.تفسير الآية رقم (20):

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
طالِعْهُم بعين التصريف كيلا يفترق بك الحال في شهود اختلافهم وتباين أطوارهم؛ فإنَّ مَنْ طالَعَ الكائناتِ بعين القدرة علم أن المُثْبِتَ للكلِّ- على ما اختص به كل واحد من الكل- واحدٌ.
فادْعُهم جهراً بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سِرَّاً بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرِّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سِرَّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمُجرِي للأمور والمبدي- نحن.

.تفسير الآية رقم (21):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}
إن الذين ربطناهم بالخذلان ووسمناهم بوصف الحرمان- أخْبِرْهم بأن إعراضنا عنهم مؤبد، وأن حكمنا سبق بنقلهم عن دار الجنان إلى دار الهوان، من الخذلان والحرمان إلى العقوبة والنيران.

.تفسير الآية رقم (22):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
أولئك الذين ليس لهم- اليومَ- توفيق بأعمالهم، ولا غداً تحقيق لآمالهم، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا في الدارين نصرتنا، ولم يشهدوا عِزَّنا وقدرتنا.

.تفسير الآية رقم (23):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
امتحناك بدعوة من سبق علمنا بأنهم لا يستجيبون، فاصبر على ما أُمِرْتَ فيهم، واعلم سوء أحوالهم، فإنهم أهل التولِّي عن الإجابة، لأنهم فقدوا منا حسن التجلي بسابق الإرادة.

.تفسير الآية رقم (24):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ في دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
عاقبناهم في الدنيا بالاستدراج حتى حكموا لأنفسهم بالنجاة وتخفيف العقاب، وسوف يعلمون تضاعف البلاء عليهم، ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون.
ظن المخطئون حكماً...

.تفسير الآية رقم (25):

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
هذه كلمة تعجب لما أخبر به عن تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن عند بهتة عقولهم ودهشة أسرارهم، وانقطاع دواعيهم، وانخلاع قلوبهم من مكامنها، وتراقيها إلى تراقيهم، ثم ما يلقونه من الحساب والعتاب، والعذاب والعقاب، وعدم الإكرام والإيجاب، وما في هذا الباب.
وقيامةُ الكفار يومَ الحشر، وقيامة الأحباب في الوقت، ولِشَرْحِ هذا تفسير طويل.

.تفسير الآية رقم (26):

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
قوله جلّ ذكره: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ}.
{اللهم} معناها يا الله والميم في آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صِفْني بما أسْتَحِقُّه من جلال القَدْر فَقُلْ: يا مالكَ المُلْكِ لا شريكَ لكَ ولا مُعينَ، ولا ظهير ولا قرين، ولا مُقاسِمَ لكَ في الذات، ولا مُسَاهِمَ في المُلْك، ولا مُعَارِضَ في الإبداع.
{تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}.
حتى نعلم أن الملك لك، والمَلِكُ من المخلوقين مَنْ تَذَلَّلَ له، ومنزوعٌ المُلْكُ ممن تكبَّر عليه؛ فَتَجمُّلُ الخَلْقِ في تذللهم للحق، وعِزُّهم في محوهم فيه، وبقاؤهم في فنائهم به.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ}.
بعز ذاتك.
{وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}.
بخذلانك.
وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك. وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه. وتعز من تشاء بطوالع أُنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه. وتعز من تشاء ببسطه بك، وتذل من تشاء بقبضه عنك.
و{تُؤتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يشد نطاق خدمتك، {وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} بنفيه عن بساط عبادتك. توتي الملك من تشاء بإفراد سِرِّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق، {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} بإقامته بالإرادة، {وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} يردُّه إلى ما عليه أهل العادة.
{بِيَدِكَ الخَيْرُ}.
ولم يذكر الشر حفظاً لآداب الخطاب، وتفاؤلاً بذكر الجميل، وتطيراً من ذكر السوء.
{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ}.
من الحجب والجذب، (والنصرة) والخذلان، والأخذ والرد، والفرق والجمع، والقبض والبسط.

.تفسير الآية رقم (27):

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
تولج الليل في النهار حتى يَغْلِبَ سلطانُ ضياءِ التوحيد فلا يَبْقَى من آثار النفس وظلماتها شيءٌ، وتولج النهار في الليل حتى كأن شموسَ القلوب كُسِفَت، أو كأن الليل دام، وكأن الصبح فُقِد.
وتخرج الحي من الميت حتى كأن الفترة لم تكن، وعهد الوصال رجع فَتيَّاً، وعُودُ القلوبِ غضّاً طريَّاً.
وتخرج الميت من الحي حتى كأن شجرة البرم أورقت شوكاً وأزهرت شوكاً، وكأن اليائس لم يجد خيراً، ولم يشم ريحاً، وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة.
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
حتى لا (كدر) ولا جُهْدَ ولا عَرَقَ جبينٍ، ولا تَعَبَ يمينٍ، لَيْلَهُ روحْ وراحة، ونهارُه طرب وبهجة، وساعاته كرامات، ولحظاته قُرُبات، وأجناس أفعاله على التفصيل لا يحصرها لسان، ولا يأتي على استقصاء كنهها عبارة ولا بيان.
وفيما لوَّحنا من ذلك تنبيه على طريق كيفية الإفصاح عنه.
ويقال لما قال: {وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} انكسر خُمَارُ كلِّ ظانٍّ أنه مَلِكٌ لأنه شاهد مُلكِهِ يعرض للزوال فَعَلِمَ أن التذلل إليه في استبقاء ملكه أولى من الإعجاب والإدلال.
ويقال المَلِكُ في الحقيقة- مَنْ لا يشغله شيء بالالتفات إليه عن شهود من هو المَلِكُ على الحقيقة.

.تفسير الآية رقم (28):

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
قوله جلّ ذكره: {لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنُونَ}.
من حقائق الإيمان الموالاةُ في الله والمعاداة في الله.
وأوْلى مَنْ تسومه الهجرانَ والإعراضَ عن الكفار- نَفْسُك؛ فإنها مجبولةٌ على المجوسية حيث تقول: لي ومني وبي، وقال الله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} [التوبة: 123].
وإن الإيمان في هذه الطريقة عزيز، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام- وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغاً عظيماً- فليسوا بأهل لموالاتك، والشكل بالشكل اليق.
قوله جلّ ذكره: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ}.
صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم- ألبتة.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}: هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة، فأمَّا الذين نزلت رُتْبَتُهم عن هذا فقال لهم: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى} [آل عمران: 131] وقال: {واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ} [البقرة: 281]. إلى غير ذلك من الآيات.
ويقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أن يكون عندكم أنكم وصلتم؛ فإن خفايا المكر تعتري الأكابر، قال قائلهم:
وأمِنْتُه فأتاح لي من مأمني ** مكراً كذا مَنْ يأمن الأحبابا

ويقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} لأن يجري في وهم أحد أنه يصل إليه مخلوق، أو يطأ بساطَ العِزِّ قَدَمُ همة بشر، جلَّتْ الأحدية وعزَّت!
وإنَّ من ظن أنه أقربهم إليه ففي الحقيقة أنه أبعدهم عنه.

.تفسير الآية رقم (29):

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}
لا يَعْزُبُ معلوم عن علمه، فلا تحتشم من نازلة بك تسوءك، فعن قريب سيأتيك الغوث والإجابة، وعن قريب سيزول البلاء والمحنة، ويُعَجِّلُ المدَدَ والكفاية.

.تفسير الآية رقم (30):

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}
قوله جلّ ذكره: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا}.
وَدَّ أهل الطاعات أَنْ لو استكثروا منها، ووَدَّ أهل المخالفات أَنْ لو كبحوا لجامهم عن الركض في ميادينهم، قال قائلهم:
ولو إنني أُعْطِيتُ من دهري المُنَى ** وما كلُّ مَنْ يُعْطَى المنى بِمُسَدَّدِ

لَقُلْتَ لأيامٍ مَضَيْن: ألا ارجعي ** وقلتُ لأيام أتيْن ألا ابعدي

قوله جلّ ذكره: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}.
الإشارة من قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه} للعارفين، ومن قوله: {وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} للمستأنفين، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.
ويقال لمَّا قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه} اقتضى أسماع هذا الخطاب تحويلهم فقال مقروناً به: {وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ} لتحقيق تأميلهم، وكذلك سُنَّتُه يطمعهم في عين ما يروعهم.
ويقال أفناهم بقوله: {وَيُحَذِّركُمُ اللهُ نَفْسَهُ} ثم أحياهم وأبقاهم بقوله: {وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}.

.تفسير الآية رقم (31):

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
{تُحِبُّونَ اللهَ} فرق، و{يُحْبِبْكُمُ اللهُ} جمع.
{تُحِبُّونَ اللهَ} مشوب بالعلة، و{يُحْبِبْكُمُ اللهُ} بِلا عِلّة، بل هو حقيقة الوصلة. ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضي منه تلك الحالة إيثاره- سبحانه- على كل شيء وعلى كل أحد.
وشرطُ المحبةِ ألا يكون فيها حظٌّ بحال، فَمنْ لم يَفْنَ عن حظوظه بالكلِّية فليس له من المحبة شظيَّة.
ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانَه إليه ولطفَه به، وهي إرادةُ فضلٍ مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله.
ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك في محبوبك، قال قائلهم:
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا ** وتخرس حتى لا تجيب المناديا

وهذا فرق بين الحبيب والخليل؛ قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} [إبراهيم: 36].
وقال الحبيبُ: {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.
فإن كان مُتَّبعُ الخليل منه إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً.
ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحدٍ نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة، أو التجرد عن آفة لأنه قال: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله.
ويقال قال أولاً: {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران؛ أولاً يحبهم ويحبونه (وبعده) يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة.
والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حَبَبُ الأسنان وهو صفاؤها.
والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر.
ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب.
والحبُّ حرفان حاء وباء، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البَدَن، فالمُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه.